في مشهد من مسلسل The Good Doctor، والذي بالعادة أتابع منه حلقتين أسبوعيًا وأنا على كرسي الحلاق، شدني حوار دار بين د. كلير ود. ليم. كانت د. كلير تزف خبرًا سعيدًا مفاده أنه عُرض عليها منصب رئاسة قسم الجراحة في غواتيمالا. لكن الغريب أن د. ليم، والتي كانت مديرة لها سابقًا في مستشفى ساينت بونافنتشر، لم تبدُ متحمسة لهذا الخبر، بررت رأيها بأن د. كلير شخصية عاطفية وإنسانية جدًا، وهذا قد يؤثر على قراراتها. د. كلير لم يعجبها الكلام، وأصرت أن الجوانب الإنسانية لا تتعارض مع المهنية والاحترافية، بل هي جزء لا يتجزأ من القيادة الناجحة، هذا الحوار أعاد إلى ذهني جملة قالها لي مديري السابق، “باتريشو” قبل سنوات قبل أن يغادر الشركة:
“أنت رجل طيب وراقي، ولكنك تحتاج إلى أن تكون أكثر حزمًا وتخرج من منطقة الراحة.”
واليوم، وبعد سنوات من رحيله، وبعد الكثير من المواقف التي مررت بها في العمل، اقتنعت بكلام باتريشو وتفهمت أيضا وجهة نظر د. ليم ولو أنه مشهد تمثيلي
للأسف، في بيئة العمل، لا تُكافأ الطيبة ولا الإنسانية كما ينبغي بل في كثير من الأحيان تُفهم على أنها سذاجة. وأنهاضعف وقلة حزم، وكلما كنت متفهمًا ومتعاونًا زاد احتمال أن يُنظر إليك كقائد غير مؤهل، في المقابل نجد أن من يتجرد من المشاعر ويتعامل بقسوة وقلة احترام لمن حوله، هم الأكثر حصولًا على الترقيات والمناصب العليا..
وهنا يكمن التناقض المحزن… كيف تكون الطيبة وحسن الخلق عيبًا ونحن نقتدي بسيرة الرسول الكريم ﷺ وصحابته، الذين جمعوا بين القوة والرحمة و بين القيادة والحكمةو بين الحزم والخلق الرفيع..
ألم يكن أبو بكر الصديق رضي الله عنه رقيق القلب، كثير البكاء، لكنه قاد الأمة في أصعب مرحلة بعد وفاة النبي ﷺ وحارب المرتدين بحزم وثبات، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه حازمًا عادلاً، لا تأخذه في الله لومة لائم، لكنه بكى حين سمع بكاء الأطفال من الجوع في الليل، وحمل لهم الطعام بنفسه، وعثمان بن عفان رضي الله عنه كان مشهورًا بحيائه الشديد حتى قال عنه النبي ﷺ:«ألا أستحي من رجلٍ تستحي منه الملائكة؟»
ختاما تعلّمت مع الأيام أن الطيبة وحدها لا تكفي، وأن الحزم لا يناقض الأخلاق، لم أتغيّر ولن أتغير حتى لو كلفني ذلك ضياع الفرض، ما زلت أؤمن بالخير، لكنني أصبحت أكثر وعيا، صرت أُحسن التصرّف دون أن أُسيء الظن، وأضع حدودي دون أن أرفع صوتي.
ما زلت أؤمن بالخير، لكنني لم أعد أقدّمه لمن لا يقدّره، فالقيادة لا تعني أن تتخلّى عن إنسانيتك، بل أن توازن بينها وبين الحزم، وسلامٌ على الطيّبين، وإن تأخّروا في السباق
دمتم بود…
(37)
سلامٌ على الطيبين! صدقت يا بو عامر
من التجربة الشخصية بالحياة العملية أجد أن تقدير الطيبة والتعامل الحسن يفرق لدي كثيراً وهو على قائمة المحفزات للعمل والتفاؤل بيوم عمل جديد عندي. حالما أجد نوع من الاستغلالية وانعدام التقدير، تنهار المعنويات تماماً. وأنا غيرت العمل مرتين لهذا السبب.
لا أعرف كيف ساكون لو قُدر لي أن اكون يموقع قيادي، حيث أن كل ما أراه بالحياة العملية من حولي، ان الطيب لا ينجح (بالمعيار المهني). لكنني مؤمن رغم ذلك بالعدالة والمعاملة الطيبة.. رغم الكلفة الباهضة في الكثير من الأحيان. الطيبة والأخلاق العالية مقدمة عندي على كل ربح ونجاح متخيل، حتى وأن فاتني الكثير.
لاحظت أن الناجحين من زملائنا في ريادة اﻷعمال (على اﻷقل مادياً) أصبحوا أشخاص ذو تعامل حازم وأحياناً يصل إلى السوء في تعاملهم مع الموظفين ومع العملاء، والغريب أنهم بطريقتهم هذه يضيعون كثير من الفرص، لكن في المقابل نجحوا مادياً في فرص أخرى ولو كانت قليلة حققت لهم مكاسب كبيرة.
بالنسبة لي كرائد أعمال أجد أن أهم أسباب فشلي من ناحية مادية هو تعاملي مع العملاء على أنهم زملاء وأصدق أي كلام يقولونه لي، واضع نفسي مكانهم تطبيقاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه كما يحب لنفسه”
لكن في المقابل مع قلة الدخل المادي أجد بركة في الرزق وراحة في البال وتواجدي مع عائلتي الصغيرة، مقارنة بمن يحرقون أعصابهم في طريقتهم غير الودية في التعامل مع الناس وتواجدهم في العمل طول اليوم وبعدهم عن أبنائهم.
يروى عن الصحابي الجليل علي بن أبي طالب :
” لا تكن صلباً فتكسر ولا ليناً فتعصر “